كتب مراسل ذا كرادل في مصر أن قطاع الغاز الطبيعي في مصر انتقل خلال عقد واحد فقط من كونه رمزًا للاكتفاء الذاتي والطموح التصديري إلى مرآة فاضحة لهشاشة إدارة الطاقة، وتشابك السياسة بالاقتصاد في شرق المتوسط. لا يبدو اتفاق الغاز الأخير مع إسرائيل، المرتبط بحقل ليفياثان، مجرد صفقة تجارية عادية، بل يمثل حلقة جديدة في مسار بدأ منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وتسارع مع اكتشاف حقل ظهر، وانتهى بربط مستقبل الطاقة المصري باعتماد طويل الأمد على الخارج.
ويرى الكاتب أن هذا المسار يعكس أزمة أعمق في بنية السياسات الاقتصادية، في ظل تدهور الوضع المالي واشتداد الضغوط على العملة والميزانية العامة، ما جعل قطاع الطاقة أداة لإدارة الأزمات بدلًا من كونه ركيزة للتنمية المستدامة.
أسطورة الاستقلال الطاقي
بدأ التعاون الطاقي بين القاهرة وتل أبيب مبكرًا بعد اتفاقية كامب ديفيد، لكنه دخل مرحلة جديدة في أوائل الألفية، حين صدّرت مصر الغاز إلى إسرائيل عبر خط الغاز العربي. آنذاك، تمتعت مصر بفائض إنتاجي مدعوم باحتياطيات كبيرة في دلتا النيل والبحر المتوسط، بينما ظل الطلب المحلي محدودًا نسبيًا. غير أن هذا التفوق تآكل تدريجيًا بفعل النمو السكاني السريع، وتوسع الصناعة، والاعتماد شبه الكامل على الغاز في توليد الكهرباء، من دون إصلاحات جادة في كفاءة الطاقة أو سياسات التسعير.
قاد هذا النهج إلى استهلاك مفرط، وعزوف الاستثمار الخاص عن الطاقة المتجددة، وتعاملت الحكومات المتعاقبة مع الغاز كمصدر سريع للنقد الأجنبي، لا كأولوية استراتيجية. بحلول 2015، دخلت مصر عجزًا حادًا في الغاز واضطرت إلى استيراد الغاز المسال بأسعار مرتفعة، في وقت تعمقت فيه الأزمة الاقتصادية وتزايدت أعباء الدين.
وعد «ظهر» وحدوده
جاء اكتشاف حقل ظهر في 2015 كطوق نجاة. قدّرت احتياطياته بنحو 30 تريليون قدم مكعبة، وبدأ الإنتاج سريعًا، ليبلغ ذروته في 2019، ويعيد لمصر لفترة وجيزة الاكتفاء الذاتي ويُنعش محطتي إدكو ودمياط للإسالة. احتفى الخطاب الرسمي بالاكتشاف باعتباره نقطة تحول تاريخية، ورسّخ صورة مصر كمركز إقليمي للطاقة.
لكن الواقع كان أكثر هشاشة. بلغ إنتاج الغاز ذروته في 2021 ثم بدأ في التراجع، بينما واصل الاستهلاك المحلي الارتفاع متجاوزًا الإنتاج. لم يكن هذا التراجع مفاجئًا من الناحية الفنية، بل نتج عن نموذج استخراج مكثف في سنوات قصيرة، من دون استثمارات كافية لتعويض النضوب بحقول جديدة. ومع الأزمة الاقتصادية الخانقة، تقلصت قدرة الدولة على ضخ استثمارات جديدة في البنية التحتية للطاقة.
صفقة ليفياثان والاعتماد الاستراتيجي
في هذا السياق، عاد خيار الاستيراد بقوة. واجهت مصر تكاليف باهظة لاستيراد الغاز المسال، ما ضغط على ميزان المدفوعات، وجعل الغاز الإسرائيلي الأرخص نسبيًا حلًا عمليًا. وقّعت القاهرة اتفاقًا بقيمة 35 مليار دولار يمتد حتى 2040، ويُلزمها باستيراد نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي.
بات الغاز الإسرائيلي يشكل نسبة معتبرة من الاستهلاك المحلي، ويُعاد تصدير جزء منه إلى أوروبا عبر محطات الإسالة المصرية، في إطار سردية “مركز الطاقة الإقليمي”. غير أن هذه السردية تخفي حقيقة أكثر إرباكًا: تحوّل مصر من منتج رئيسي إلى دولة عبور تعتمد على مورد خارجي، في ظل اقتصاد يعاني التضخم وتراجع العملة وقيود التمويل.
تكشف الحرب الإسرائيلية على غزة هذا الاعتماد بوضوح. تستخدم تل أبيب استمرار تدفق الغاز كأداة سياسية، بينما تواجه القاهرة كلفة سياسية داخلية مرتفعة، إذ يرى كثيرون الصفقة شكلًا من التطبيع الاقتصادي في لحظة حرب. في النهاية، لا يعكس هذا التحول تراجع حقل واحد فقط، بل فشل نموذج كامل فضّل الحلول السريعة على التخطيط الطويل، وربط الطاقة بإدارة الأزمات بدل الإصلاح البنيوي. اليوم، لم يعد الغاز مسألة تقنية بحتة، بل لغة جديدة من لغات الصراع.
https://thecradle.co/articles-id/35036

